حكمة الأسبوع

" وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون "









أيمن أبو مصطفى(الغاية الإقناعية بين الشعر والخطابة)

الغاية الإقناعية بين الشعر والخطابة:


بداية أود أن أنوه إلى أنه لا شك أن للخطابة دورا كبيرا في التأثير علي الجمهور و إقناعهم و لذلك كان دور الأنبياء توصيل الرسالة السماوية إلى الناس و من ثم إقناعهم بوجود الله سبحانه و تعالي و إليك بعض من الأمثلة القرآنية. في سورة نوح " قال رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا" كيف كان النبي نوح يدعوهم ؟ أليس بأسلوب مناسب يتقبله قومه ليستطيع أن يؤثر عليهم ؟و هكذا كان كل الأنبياء علي ذلك النهج من أجل تغيير مجتمعاتهم وبث روح الوعي فيهم لتقبل الرسالة السماوية .


فالأصول اللغوية لمادة ( خ - ط – ب ) تشير إلى أن الخطبة من الخطب ، أي الأمر العظيم ، وهذا يدل على أن البيان الخطابي إنما يكون في أمر جلل وشأن خطب ، فلا تكون خطبة إلا إذا كان كان خطب أي شأن عظيم .


يقول ابن وهب : "إن الخطابة مأخوذة من خطبت أخطب خطابة.. واشتق ذلك من الخَطب وهو الأمر الجليل، لأنه إنما يُقامُ بالخطب في الأمور التي تجل، والاسم منها خاطب مثل راحم فإذا جعل وصفا لازما قيل خطيب". "والخطبة الواحدة من المصدر.. والخطبة الكَلام المخطوب به ".


فقد عُرِّفت الخطابة إذن باعتبارها مشاركة في فعل ذي شأن مخاطبة في خَطب، إذ المفاعلة تفيد الاشتراك. وهو تعريف يتجه نحو وظيفة الخطابة "فالخُطب (حسب قول ابن وهب) تستعمل في إصلاح ذات البين، وإطفاء نار الحرب، وحمالة الدماء، والتشييد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك، وفي الدعاء إلى الله.. وفي الاشادة بالمناقب، ولكل ما أريد ذِكره ونشره وشهرته في الناس ".






فالخطابة تحرص على كسب المستمع إلى جانب الأطروحة التي يدافع عنها الخطيب.فغايتها تغيير حال المتلقي، وذلك بإخراجه من حالة المعارضة (أوعدم الإكتراث) لأطروحاته إلى حال قبولها والدفاع العملي عنها. الغاية هي إذن تغيير السلوك. وحينما يتم تغيير السلوك فهذا يعني أن الخطيب قد أنجز مهمته، وقد أشار إلى هذه الوظيفة أفلاطون في قوله " الخطابة هي قيادة النفوس بالقول " ورأى أرسطو نفس الرأي فالخطابة في رأيه " قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة وقد وقف ابن رشد مع مفردات هذا التعريف بما تحمله من دلالات ، إذ دل الفعل" تتكلف " على غاية ما يبذل من جهد في استقصاء فعل الإقناع ، أما وصف الإقناع بالممكن فهي دلالة على أن الإقناع في الشيء الذي فيه القول، يكون بغاية ما يمكن فيه" . ولا يبعد الفارابي في نظرته لمهمة الخطابة عن غيره من الفلاسفة ، فالخطابة عنده " صناعة قياسية غرضها الإقناع في جميع الأجناس العشرة ، وما يحصل من تلك الأشياء في نفس السامع من القناعة هي الغرض الأقصى بأفعال الخطابة. " ومما لا يختلف فيه الفلاسفة أن مهمة الخطيب في الإقناع ليست ملزمة بقدر ما هي مرشدة أو مؤدية للإقناع ، ولعل ابن رشد في وقوفه مع كلمات أرسطو حاول أن يوضح أن الخطابة تسلك جميع السبل المؤدية للإقناع ، وفي نفس الوقت غير مطالبة بتحقيق الإقناع المثالي ، بقدر ماهي داعية إلى أسبابه ، وطارحة لمقتضياته ودواعيه . ولذا نرى أرسطو يشير إلى هذه الزاوية بقوله:" مهمة الخطابة ليست الإقناع ، بقدر ماهي البحث في كل حالة عن الوسائل الموجودة للإقناع ، والأمر نفسه ينطبق على سائر الفنون ، فمثلا ليست مهمة الطبيب إعادة الصحة إلى المريض ، وإنما فقط بلوغ هذه الغاية قدر المستطاع ".


ويرى د. حمادي أن الشعر يختلف عن الخطابة فيقول:"لقد كانت الدواعي لنشأة البلاغة مختلفة تماما عن دواعي نشأة الخطابة . ولقد كانت جميعا تدفع الدارس إلى الاهتمام بالخطاب ، لا فيما يمكن أن يعرضه من الأقضية ، ويبنيه من الحجج ، ويعبر عنه من الحقائق أو من شبه الحقائق ، وإنما إلى صورته ، وشكله ،وما يتوفر فيه من طرق القول وأساليب التعبير التي يمكن على أساسها أن نحدد خصائص نص ، ونميز بين نص ونص ، أو نفاضل بينهما .


فالبلاغة ظهرت تباشيرها في أحضان الشعر . والشعر وقعه من إيقاعه ، وفضله من هيأة القول فيه . ولم يكن يفوِّق شاعرا على شاعر إلا بما يقع له من نهج في تصوير المعاني ، وإخراجها رائقة عذبة ، تسر الناظر ، وتخلب لب المستمع .ولم يغير ظهور القرآن من الأمر شيئا ، بل قواه وثبته حتى غدا التفوق وبلوغ النهايات مرتبطا في ضمائر الناس بالشكل والمظهر .


ولم نشعر في سلوك الدارسين تجاه مسألة الإعجاز وطرائقهم في تقبل آيات التحدي وتأويلها ، بما في ذلك الشق المحترز الرافض أن يكون الإعجاز خصائص ماثلة في النص خارجة عن الممكن ، بأنهم ترددوا في مأتى العجز متى تعلق الأمر بالنص .فذهبوا جميعا إلى أنه الشكل والهيأة وتصريف الكلام.ولم يدر بخلدهم أن يأتي إعجاز القول من الحجج التي يبنيها ، والسياسة التي ينتهجها في ترتيبها لتتضافر مع الشكل والهيأة فيبلغ النص من سامعه قصده ، إن قدرنا أن الجلود لا تقشعر لخصائص بنيته اللغوية فحسب ، وإنما تقشعر أيضا من إحكام بنية الحجة ، والقدرة الفائقة على الإقناع . وهي مسائل ستظهر جلية في أعمال المفسرين ، وعلماء الأصول ، وبعض علماء البلاغة المتأخرين".


وإذا كنا نوافق د. حمادي الرأي في أن السمة الغالبة على الخطابة هي الإقناع ، فإننا نرى ضرورة التنويه على أن الشعر قد يُراد به – هو الآخر - الإقناع ، فلقد أصبح من المسلمات عند بعض الدارسين ارتباط الشعر بكل ما هو عاطفي ووجداني ، وينفي هؤلاء ما قد يضطلع به من وظيفة استدلالية برهانية .


مع ملاحظة أن الحجاج قد يوجد في الشعر ، حيث تغلب الخطابية على الشعرية ، وقد طبقت الباحثة :سامية الدّريدي نظرية الحجاج على شعر الكميت . وقد أشار الجاحظ إلى ذلك فقال:"وفي الخطباء من يكون شاعرا ويكون إذا تحدث أو وصف أو احتج بليغا مفهوما بينا ، وربما كان خطيبا فقط وبين اللسان فقط ، ومن يجمع الشعر والخطابة قليل ومن الخطباء الشعراء الكميت بن زيد الأسدي وكنيته أبو المستهل "كما ذكر ابن وهب ذلك في باب الجدل والمجادلة من كتاب البرهان حين قال:" وأما الجدل والمجادلة فهما قول يقصد به إقامة الحجة فيما اختلف فيه اعتقاد المتجادلين . ويستعمل في المذاهب والديانات وفي الحقوق والخصومات والتنصل من الاعتذارات . ويدخل في الشعر وفي النثر ".


وإلى هذا ذهب حازم القرطاجني فعلى الرغم من تقسيمه العمل الإبداعي إلى شعري وخطابي، وبناء الشعر على التخييل والخطابة والإقناع، فإنه جمع بينهما في كون " القصد في التخييل والإقناع حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده ". وينبني كلا الخطابين على هذا القصد انطلاقا من كون " النفس إنما تتحرك لفعل شيء أو طلبه أو اعتقاده بأن يخيل لها أو يوقع غالب ظنها أنه خير أو شر بطريق من الطرق التي يقال في الأشياء إنها خيرات أو شرور ". وإنني أرى أن شعر النقائض والهجاء بل والمدح لهم وظيفة استدلالية إقناعية حجاجية ، لا يمكن أن نغفلها.


وقد ذكر الدكتور جابر عصفور أثناء حديثه عن الشعر والجماعة في كتابه " مفهوم الشعر" رأي حازم الذي يذهب فيه إلى أن الشعر يستخدم في بعض الأحايين بغرض الإقناع ، ويسمي تلك الأغراض "بالأغراض الجمهورية" وهي التي ترتبط بحياة الجماعة ، حيث يمكن للشعر أن يفيد من من الخطابة في كيفية الإقناع وحمل النفوس على الأشياء ، أو تقوية الظن تمهيدا لإيقاع اليقين . ثم ينقل قوله" لأن صناعة الشعر تستعمل يسيرا من الأقوال الخطابية ، كما أن الخطابة تستعمل يسيرا من الأقوال الشعرية لتعتضد المحاكاة في هذه بالإقناع ، والإقناع في تلك بالمحاكاة" ويرى أن التخييل الذي يميز الشعر لا يرمي إلى شيء غير بعيد عن الإقناع ؛ لأن الغرض من الشعر والخطابة واحد " وهو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحمل القبول لتتأثر لمقتضاه"


وعلى الرغم من ذلك فإن هناك فارقا بين الشعر والخطابة في استخدام التخييل وكذلك في السعي نحو الإقناع "وقد تنبه أرسطو لذلك ففصل الخطابة عن الشعر، وألف في كل منهما كتابا مستقلا، وتبعه في ذلك الفلاسفة المسلمون فحرصوا على التفريق بين طبيعة الشعر الذي يهدف إلى التخييل وطبيعة الخطابة الهادفة إلى التصديق حسب الأحوال والاحتمال. وتطرق دارسوا النص القرآني إلى دراسة طبيعته الخطابية، وتعارضت في ذلك آراؤهم مع آراء الفلاسفة المتأثرين بالفلسفة اليونانية، وكان من تجليات ذلك اختلاف فهمهم للآية القرآنية: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ".


أما البلاغيون فمنهم من تنبه للخصوصيات، واعتبرها عند تأليفه، مثل قدامة وابن رشيق وحازم واسحق ابن وهب.. ومنهم من لم يهتم بالتمييز إلا بشكل ثانوي خارج عن بناء مفاهيمه البلاغية، مثل ابن سنان الخفاجي وأكثر المشتغلين بالإعجاز" .


وقد أشارأستاذي الجليل الأستاذ الدكتور عيد بلبع إلى ذلك فقال : "إن البلاغة العربية القديمة لم تراع الفروق بين أنواع الخطاب في التنظير البلاغي ، ومن ثم لم تأخذ نفسها بوضع أسس نظرية ينطلق منها البحث البلاغي ، أو التحليل البلاغي مراعياً الخصائص النوعية لأنواع الخطاب على تباينها وتفاوتها "


وهذا الدمج بين بلاغة الشعر وبلاغة الخطابة كانت له آثاره السلبية على البلاغة العربية يقول د.حمادي صمود: :" من الآراء المهمة الجارية في الدراسات الدائرة على التراث البلاغي عند العرب القول بأن النظرية قامت على دمج المسلكين الخطابي والشعري، وبنت، انطلاقا من مدونة نصوص مختلفة الأنواع متباينة المقاصد ، قوانين عامة للكلام بصرف النظر عن نوع المنجز منه والغايات المعلقة به . بينما نحت الثقافة اليونانية نحوا مغايرا . فوجدنا أرسطو يُفْرِدُ الشعر بكتاب ، ويلح على الفرق بينهما من جهة الوظيفة والمقصد، ومن جهة الوسائل الموصلة إلى تلك الغايات والمقاصد على ما يجمع بينهما بعد كل ذلك من تشابه في بعض الأساليب والأقسام ، ولاسيما في باب العبارة.


وكان من نتائج هذا الدمج ارتباك هذه النظرية في ضبط المقاييس التي تتحدد على ضوئها أهمية الأسلوب وبلاغة الوجه . وقد يصل الارتباك حد التباين والتناقض في المدونة الواحدة . فنجد البلاغة معلقة أحيانا بناصية المعنى المنكشف المرسوم على ظاهر اللفظ . وتجدها إلى جانب ذلك معلقة بالتفكير والتدبير والغوص ، وما إليها من العبارات الدالة على أنها مدفونة باطنة لا سبيل إلى إدراكها إلا بتجاوز سطح النص وبُعْدِهِ الظاهر .


ومن أخطر ما نتج عن هذا الدمج مصادرة قراءة التراث البلاغي ، يقول د.حمادي :" ولكن من أخطر ما نتج عن هذا الدمج ، من وجهة نظرنا ،مصادرة قراءة كتب التراث ، ولاسيما تلك التي ألفت في مرحلة التأسيس ، وقراءتها من زاوية ضيقة ضيَّعت على الثقافة العربية جهدا كبيرا بذله أصحابها في بناء نظرية للخطاب تتجاوز بكثير ما وقع الاهتمام به والانتباه إليه، أي تتجاوز باب العبارة والأسلوب ،وهو الجانب الذي وقع الاهتمام فيها والتركيز عليه ، فمؤلف كـ" البيان والتبيين " مثلا ، على ما فيه من نصاعة البدايات وفوران المادة المروية المتأتي من عطش التدوين والجمع في هذه الفترة المبكرة ، لم يستغل في الدراسات البلاغية إلا من جهة ما فيه من تعريفات بلاغية ومقاييس ووجوه في المعنى الضيق المقتصر على باب العبارة Elocutio أما ما سوى ذلك من القضايا ، فلم يستغل ، أو قعت الإشارة إليه إشارة عابرة ، بينما تحدث صاحبه في مواطن عديدة عن " سياسة البلاغة " وعدها أهم من البلاغة ،وتحدث عن" ترتيب الأقسام " و" الظفر بالحجة " وما إليهما ، مبرزا أهميتهما في نجاعة الخطاب ، وتأكيد وقعه على المتلقي . ولم يكن حرصه ، في مؤلفه المذكور ، علىجمع ما وقع إليه من خطب ، إلا دليلا على أهمية سياسة القول في هذا الضرب من المخاطبات.


وقد أشار الدكتور : محمد العمري إلى ذلك ، ورأى ضرورة أن نميز بين بلاغين : بلاغة الخطابة ، وبلاغة الشعر ؛ فبلاغة الخطابة قائمة على "علم البيان" الذي أرسى الجاحظ دعائمه في فترة كانت فيها الجدالات كلامية ، والبحث عن الدليل من القرآن والسنة، والمحاورات والنقاشات محتدمة بين الفرق الإسلامية ، التي يسعى كل منها إلى إنتاج ( خطاب) تكون بلاغته كفيلة بكسب أكبر عدد من المؤيدين.لذا فلا غرو أن نجد الجاحظ يطابق بين المعنيين " الخطابي والبلاغي"( تماما مثل مطابقة بيرلمان بين البلاغة والحجاج). ويهتم بوسائل الإقناع الشكلية والمضمونية (على مستويي الهيئة والخطاب) . لذلك اهتم بالمقام وبمححدداته وإمكاناته، وسوف أوضح ذلك جليا في الفصل الآتي بإذن الله تعالى ، هذا علاوة على تركيزة على الجوانب البرجماتية "فالمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة ، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة ، وإنما مدار الشرف على الصواب ، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال ، وما يجب لكل مقام من المقال" أما بلاغة الشعر فتقوم على "علم البديع " وذلك ما أبان عنه ابن المعتز ، الذي لم يهتم بالمقام ، ولا بأقدار السامعين هذا إضافة على تأكيده أنه لم يجد في النثر أمثلة بديعية ؛لأنها من شأن لغة الشعر القائمة على الخرق والانزياح وعدم مراعاة " الخطية" في الفهم ، وبذلك فإن البلاغة الأولى تكرس النظرية الحوارية التي تسعى إلى كسب الآخر ، في حين ترتبط البلاغة الشعرية بالصراع بين القدماء والمحدثين حول الإبداع وتوظيف اللغة .


فإذا كان كل من الشعر والخطابة يستهدفان المتلقي، فإن ما يلتمسه الشعر من المتلقي شيء مختلف تماما عما تلتمسه الخطابة. فالشعر في أجود نماذجه قد يترفع عن مهام الإقناع. وذلك لسبب بسيط وهو أن الرسالة تتحول بين يدي الشعراء إلى كيان لفظي سميك غارق في كل أنواع التعدد الدلالي. وربما كانت هذه من الأدوات الأساسية المعتمدة في الشعر. إننا لا نتصور قارئا للشعر متضايقا من هذا التعدد الدلالي. وحتى حينما نتصور أن هناك معنى ما، فنادرا ما يتفق الشعراء والقراء على المعنى المقصود في قصيدة ما. وهناك من يذهب إلى حدود أبعد من هذه، لكي يقال إن الشعر لا يحيل على معنى ما.كل هم القصيدة أن تلفت نظرنا إلى وجودها وإلى جمالها. القصيدة حينما تنفلت من بين يدي صاحبها تعانق هوية جديدة ومستقلة عن إرادة مبدعها. والقارئ حينما يقرأها لا يستهلك احتمالاتها. إنها تغري في كل قراءة باحتمالية دلالية جديدة .






"وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الخطابة. لم يمتدح أبدا الغموض في الخطابة، كما امتدح في الشعر. وقلما خطب الخطباء لمجرد إمتاع المستمعين. كما أن المستمع الذي يبحث عن المتعة الجمالية عند الخطباء يضل الطريق. وربما اعترض معترض لكي يقول : إن هناك خطباء يمتعنا أسلوبهم أكثر مما يفعل بعض الشعراء. إن هذا ممكن، إلا أن هذه الإثارة هي مجرد تكئة إقناعية. إن ما نعتبره مقومات شعرية في الخطابة هي في الواقع مقومات حجاجية. هي حجج. إن الخطيب، حينما يستخدم الاستعارات في الخطابة فلا يفعل ذلك لأجل الإمتاع، وإنما يفعل ذلك لأجل الإقناع. لقد ذهب شيشرون إلى التمييز بين ثلاثة وظائف في الخطابة وهي الإفادة والإمتاع والتأثير. ومع هذا فإن هذه المتعة ليست مقصودة في حد ذاتها. إنها وسيلة لا غير. لا يمكننا ونحن نتناول هذا الأمر التغاضي عن رأي برلمان في هذا الموضوع. إن أي محسن في الخطابة لا يسعى إلى مجرد إمتاع المتلقي. إنه بالأحرى حجة إقناعية ولا يصبح محسنا إلا حينما يقصر عن أداء وظيفته الحجاجية. إن الخطيب يعبئ كل الإمكانات التي تتيحها اللغة، متجها نحو غرضه الرئيسي ألا وهو الإقناع. إن هذه الحجج اللفظية، من قبيل الاستعارة والتمثيل والجناس والوزن والسجع الخ، لا تعود محسنات إلا حينما تفشل في أداء مهمتها الإقناعية"


هذا وبالله التوفيق.